ما أن تدرك أن إصابتك مؤكدة بذلك الفيروس اللعين، تبدأ كواليس اللقاء الرهيب.. وكأنك تخطو خطوات وئيدة وثقيلة باتجاة مقامرة ليست مأمونة العواقب.. مقامرة الحياة والموت التى هي قائمة طيلة الوقت، لكنك لا تعرف عنها شيئاً ولا تواجهها بمثل هذه المباشرة المقبضة.. على ما يبدو أن "كوفيد" صار يجردنا حتى من "رحمة الغيب" الذى أخفي عنّا مواقيت التنفيذ.. فصار يضع الجميع أمام لحظات قاسية من الانتظار والألم التى لا يعلم أحد كيف ستنتهي؟
ترى.. ما الذى سطره هذا الوباء الغامض فى كتاب الموتى؟ لقد حرر الموت من قناعه وجعله كائنا حرا طليقا يتخلى عن مجهوليته ويتربص بالجميع فى توحش فج ومجاهرة مرعبة.. جعله يظهر لضحاياه ليرونه رؤى العين ويرهبهم بكامل طاقته، كما لو كان ملاك الموت أصبح مرئياً للبشر لحظة إتمام مهمته وقبضه الأروح.. جعلهم يترقبون أنفاسهم المُجهَدة خشية أن تتراجع و ألا تعود مجدداً .. جعلهم أيضاً يدركون قيمة الحياة وما تفيض به من نعم يجهلون قيمتها وقدرها، لتحيطهم الأماني الذابلة بأن يعود الزمن بهم مرة أخرى، ليفعلوا ما قد أجلوه، ولا علم لهم بسيف الوقت الذي يصعب التنبؤ بموعد طعنته.
من ينهي كواليس المقابلة بسلام يخرج من قبو الموت كـ "الناجي الأخير" من موكب النحيب، ثم يدلف مجدداً من بواية الحياة، ليرى الدنيا بعين وليدة يخدشها ضوء الشمس القوي، كمن ظل أعواماً فى ظلام محكم تحت الأرض.. يستنشق ذرات الأكسجين كـ "الجائع" الذي أرهقه العوز ولا يريد أن يمر بتجربة الحصار التنفسي مرة ثانية.. يفتح رئتيه على مصراعيها كمن يريد أن ينتزع الحياة ويفر هارباً من هذا المحيط المشتعل.. يضغط على قلبه، كى يمنحه لمسة طمأنينة تُهديه قُبلة الحياة التى يرتجيها.. يتفقد الطرقات بعين السجين الذى راودته الظنون بأنه سيظل حبيس الجدران التى تأوي معاناته الثقيلة. ينظر إلى العالم من حوله بابتسامات حذرة ممتزجة بدموع دافئة كأحد أشكال العودة المحفوفة بمخاطر غير معلومة.
من يُنهي كواليس المقابلة بسلام، يظل يحمل فى قلبه ارتجافة خوف من وجع لم يعهده من قبل، من انطفاءة لم يكن يتأهب لها.. من تجربة قصمت ظهر الاحتمال وعظمت نوبات الوهن. من ينهي كواليس المقابلة بسلام يتشبث بالدنيا كمن دُفِن حياً أو توقف قلبه للحظات، ثم عاد من غياهب الموت إلى الحياة بقلب طفل يتشبث بعباءة ذويه، كي لا يغيب بغير رجعة.. من ينهي كواليس المقابلة بسلام، يتمنى لو لم يكن أحد المدعوين على طاولة هذا اللقاء الموحش وألا يقع عليه الاختيار البائس.
حتى الناجين من فواجع هذه المقابلة، تظل رائحة الموت عالقة بأنوفهم يتشممونها فى رهبة.. كان من السهل ألا يُطلق الموت سراحهم وألا يعودوا مرة أخرى.. لقد كانت مقابلة حية مع الموت تتجسد بها تفاصيل الرحيل، بالتسجيل البطىء كـ "بث تجريبي" و "محاكاة افتراضية" ثقيلة.. نعم ، لقد عٌدنا، ولكن ليس كما كّنا. لقد كانت بالفعل مقابلة ترويعية للبعض. وبحسب درجة الاقتراب من الشهيق الحارق، يكون عمق الأثر الذى لا يُغادرنا.
--------------------
بقلم - شيرين ماهر
من المشهد الأسبوعي